الإطار الدستوري لحق الوصول إلى المعلومات

هل يقدم الدستور اللبناني ضمانات لحق الوصول إلى المعلومات؟ في هذا المقال سنحاول أن نرى كيف أن الدستور في بعض نصوص مقدمته العامة يشكّل ذخيرة كافية لاستخراج الإطار القانوني اللازم لإدخال تشريعات تؤمّن للبنانيين الحق في الإطلاع والوصول إلى المعلومات الرسمية.

Documents

الحق في الاطلاع حقٌ مكرس في الدستور

نبدأ بنص دستوري في غاية الأهمية هو الفقرة “د” من مقدمة الدستور اللبناني والتالي نصها: “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية”.
وهو نصّ في غاية الأهمية للأسباب التالية:
– لأن السيادة وفقاً له هي سيادة الشعب، فلا شرعية لسلطة خارج السيادة الشعبية هذه.
– ولأن السيادة والشرعية هما ما يرتضيه اللبنانيون لأنفسهم، أي الإرادة الشعبية الداخلية.
– ولأن الشعب إذ يمارس هذه السيادة عبر المؤسسات الدستورية، يكون بالفعل هو مصدرها.
– وأخيراً، لأن المؤسسات لا تكون دستورية ما لم تنبثق من الشعب، إذ به تكون الشرعية وتالياً السيادة، وبممارسته تُبنى الأعراف والمؤسسات الدستورية.

قد يتساءل القارئ: ما علاقة السيادة والشرعية والمؤسسات الدستورية والممارسة الشعبية بموضوعنا؟
والجواب: إن هذا النص هو في أساس نظام الحكم في لبنان بعد الطائف (وحتى قبله). وبما هو نص تأسيسي فهو في صلب استقامة نظام الحكم، فإن لم يطبّق، أو إذا جرى تعطيله، لا يبقى النظام دستورياً.
والحال أن هذا النص غير مطبّق، وإن في عدم تطبيقه ما هي عليه شؤون الدولة وأمور النظام من عدم استقامة، وما نحن فيه من انحطاط وتخبط.
في المقابل، فالواجب هو في تطبيق هذا النص، لأن في تطبيقه صلاح شؤون الدولة، واستقامة أمور النظام، وتطور البلاد وانتظامها.
يكون ذلك بأن يعي الشعب اللبناني، بما هو مصدر السلطات وصاحب السيادة، يمارسها عبر المؤسسات الدستورية، أنّ عليه محاسبة من يفوّضهم عبر انتخابات حرة ونزيهة، وعلى أساس قانون انتخاب عادل يساوي بين اللبنانيين، ولا تكون هذه المحاسبة إلا إذا وعى من فوّضهم الشعب بأنهم مساءلون أمامه. فله إذا ما أحسنوا انتخابهم مجدداً وإعادة توليتهم، وله إذا ما أساؤوا نزع ثقته بهم وتولية غيرهم.
وهذه هي المحاسبة السياسية.
ويكون ذلك أيضاً بانبثاق حكومة مسؤولة عبر استشارات ملزمة عن مجلس تمثيلي منتخب أصولاً، تنال الثقة البرلمانية على أساس برنامج عمل حكومي يبقى تنفيذه خاضعاً دوماً لرقابة المجلس ومساءلته.
وهذه هي المسآءلة النيابية.
كما يكون ذلك بوجود قضاء مستقل نزيه، شامل وعادل يطبق القانون ويكرّس الحريات ويحمي الحقوق.
وهذه هي المحاسبة القانونية.
وأي تعطيل لأي حلقة من هذه الحلقات يؤدي حكماً إلى تعطيل نظام الحكم، ويطيح تالياً بشرعية النظام وباستقراره.
ولكن لكي يكون كل هذا، على اللبناني أن يعلم ما هي حقيقة أوضاعه، أي أن يكون مطّلعاً على شؤون السلطات (التي هو مصدرها) وعلى سير المؤسسات (التي يمارس سلطته عبرها). وغير ذلك فلا هو صاحب السيادة ولا تكون السيادة منبثقة من إرادته الحرة.
والسؤال: هل يمكن للمواطن اللبناني أن يضطلع بمسؤوليته الدستورية هذه دون أن يتاح له الإطلاع على المعلومات الرسمية لدى السلطات العامة؟ وهل يمكنه أن يقرر، ويحاسب، ويكافىء، ويعاقب، من دون أن تكون المعطيات والمعلومات الرسمية في متناوله؟
والجواب: من غير الممكن ذلك. إذ من شأن غياب المعطيات والمعلومات بالفعل تعطيل المحاسبة والمساءلة بتغييب أساسهما الموضوعي، وتحويل النقاش السياسي من نقاش موضوعي وعملي إلى نقاش أجوف ونظري بعيداً من الحقائق الموضوعية والاجتماعية التي تهم اللبنانيين، وتنأى بالتالي بالنقاش من إمكان إثبات صحته أو خطئه قياساً على معايير صحيحة وحقيقية.
لذا، نرى أن الحق بالوصول إلى المعلومات الرسمية والإطلاع عليها يمكن استخلاصها من المبادىء العامة الدستورية المكرّسة لاستقامة عمل النظام.
إذاً، يمكن الاستنتاج أن الحق في الإطلاع وفي الوصول إلى المعلومات الرسمية هو حق دستوري، مكرس في نص تأسيسي في مقدمة الدستور. والدستور هو قانون البلاد الأساسي الذي يتضمّن في ثناياه التعاقد القانوني بين اللبنانيين، وما ينبثق عنه من عقد سياسي وعقد اجتماعي وعقد اقتصادي. ومن شأن تقنين هذا الحق الدستوري بإقرار تشريعات تطبيقية لهذه الجهة، ليس تطبيق النص الدستوري فقط بل ضمان شرعية الحكم وتعزيز سيادة الدولة. كما من شأن تطبيق هذا النص الدستوري استقامة أمور النظام، وفي استقامة النظام صلاح أمور اللبنانيين.
وكل هذه الأمور هي شأن اللبنانيين جميعاً، وهي لا تكون شأنهم ما لم يمارسوا سيادتهم بالاختيار الحر والمحاسبة الشعبية والسياسية والمساءلة القانونية، ولا يكون هذا وذاك إلا باطلاعهم على حقيقة كل ما يدور حولهم وبخصوصهم، في مؤسسات الدولة وفي مرافقها.
أخيراً، وفي هذا الخصوص، فشؤون الدولة بطبيعتها وبتعريفها هي شأن عام. وهكذا إذن تكون سجلات الدولة الرسمية وقيودها ومعلوماتها، بطبيعتها وبتعريفها، شأن عامة اللبنانيين لهم الحق بالإطلاع عليها والوصول إليها دون عائق وبصورة بديهية.

الحق في الإطلاع تجسيد لسيادة الدولة

بالانتقال إلى نص دستوري آخر هو نص الفقرة “ب” من مقدمة الدستور وهو النص التالي: “لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتجسد الدولة هذه المبادىء في جميع الحقول والمجالات دون استثناء”.
لا يقل هذا النص أهمية عن النص السابق وهو نص سيادي أيضاً.
فالدولة بما هي سيدة، توقّع وتبرم المعاهدات والمواثيق الدولية. وبما هي صاحبة سيادة تلتزم هذه المعاهدات والمواثيق، وتسعى لأن تجسد مبادئها في جميع الحقول والمجالات دون استثناء.
وعلى هذا، فالدولة اللبنانية كدولة سيدة، ملزمة احترام المبادىء المنصوص عنها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي وقّعته منذ عقود عديدة. وهي ملزمة أيضاً احترام غيرها من عهود ومواثيق ومعاهدات دولية وقّعتها منذ الاستقلال. وعلى الدولة اللبنانية إذن واجب تجسيد هذه المبادىء في جميع الحقول والمجالات دون استثناء. وفي هذا أعلى درجات السيادة.
ولكون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص في المادة 19 منه على ما يلي: “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”.
فتكون الدولة اللبنانية بحكم التزاماتها وتعهداتها الدولية ملزمة تجسيد هذه الالتزامات والتعهدات في جميع الحقول والمجالات دون استثناء. وتكون تالياً ملزمة إقرار حق اللبنانيين، في معرض اضطلاعهم بدورهم السيادي في مراقبة ومتابعة شؤون الدولة وأمورها تمهيداً للمساءلة والمحاسبة، بالإطلاع وبالوصول إلى المعلومات الرسمية، وكل ذلك في إطار تطبيق النص الدستوري الآمر. وفي هذا تجسيد لسيادتها وشرعيتها.

TopSecret

الحق في الإطلاع يعزّز العيش المشترك

ننتقل الآن إلى نص دستوري أخير هو نص الفقرة “ي” من مقدمة الدستور وهو النص التالي: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.
ينزع هذا النص شرعية أي سلطة من السلطات إن هي أتت بما يناقض ميثاق العيش المشترك.
فالعيش المشترك هو المعيار الذي يتم الاحتكام إليه في تحديد الشرعية، هذه الشرعية التي هي في أساس السيادة. والحال إذاً، كيف يعزّز العيش المشترك فيما بين اللبنانيين؟ وكيف يُصان ميثاق العيش المشترك هذا؟
والجواب بسيط جداً: في احترام الدستور وتطبيق أحكامه. فالدستور هو سياج النظام وحاضن الشرعية وحامي العيش المشترك. وبمقدار ما يطبّق الدستور، وبمقدار ما تُحترم أحكامه، يحصّن العيش المشترك بين اللبنانيين ويُصان الميثاق.
فالدستور هو العقد الجامع بين اللبنانيين. وهذا العقد وضعه اللبنانيون (نظرياً على الاقل) بإرادتهم. ولهم أن يعدّلوا فيه بإرادتهم أيضاً، ودوماً من ضمن أطر التعديل المنصوص عنها في الدستور نفسه.
هذه هي ديمقراطية النظام.
في المقابل، بمقدار ما يخالَف الدستور وأحكامه، وتبقى نصوصه حبراً على ورق، نصوصاً متماسكة ناطقة ولكن دون تطبيق، تُنتهك الشرعية ويهدّد ميثاق العيش المشترك، وتعصف بمصائر اللبنانيين رياح الفرقة والتنابذ.
وهذه هي عبثية النظام.
وللاعتبارات المذكورة، فإن تطبيق النصوص الدستورية أعلاه (الفقرتان “د” و “ب”) لجهة أولوية إقرار الحق في الإطلاع والوصول إلى المعلومات الرسمية، سيؤدي حكماً إلى تعزيز إيمان اللبنانيين بنظام الحكم ويعزز ثقتهم بمؤسسات الدولة ويرسَّخ قناعتهم بأن أمورهم منوطة بهم وبأن بمقدورهم محاسبة من يستحق ومكافأة من يستحق.
وفي هذا تجسيد لشرعية العيش المشترك.
في ضوء هذا، من شأن تطبيق أحكام الدستور لهذه الجهة (كما لغيرها) تعزيز العيش المشترك وضمان وحدة اللبنانيين، ويمسي الحق في الإطلاع والوصول إلى المعلومات الرسمية حلقة أساسية في هذا السياق، سياق تطبيق الدستور وبالتالي إعلاء سيادة الدولة والحفاظ على شرعية النظام وصون ميثاق العيش المشترك.
يبقى أن من شأن تطبيق النصوص الدستورية أعلاه لجهة تكريس حق اللبنانيين بالإطلاع والوصول إلى المعلومات الرسمية عبر إدخال تشريعات تنظيمية تؤمّن ذلك، المساعدة على تحقيق الشفافية وهي في أساس محاربة الفساد، هذه الآفة التي ابتلينا بها ولا نزال!

الخلاصات

من البديهي إذاً ، النظر إلى هذه النصوص الثلاثة بتلازم بعضها مع البعض الآخر. ومن المنطقي والواقعي أيضاً استنتاج الخلاصات التالية:
– يوفّر الدستور اللبناني الإطار الدستوري اللازم لإقرار تشريعات تؤمّن الحق في الإطلاع والوصول إلى المعلومات الرسمية.
– الحق في الإطلاع على المعلومات الرسمية والوصول إليها، حق دستوري يُستخلص من نص الفقرة “د” من مقدمة الدستور.
– وهذا الحق في أساس الشرعية الشعبية المنبثقة من اضطلاع الشعب، بوصفه مصدر السلطات وصاحب السيادة، بدوره في ممارسة سيادته عبر المؤسسات الدستورية، وفق نص الفقرة “د” من مقدمة الدستور.
– ولأن من شأن ممارسة الشعب السيادة استقامة أمور النظام، وصلاح شؤون الدولة وحسن أداء المؤسسات.
– ولأن الحق في الإطلاع على المعلومات الرسمية والوصول إليها هو بحكم النص الدستوري المكرّس، فيكون واجب التطبيق لذاته من جهة، ولما يؤدي إليه من نتائج توفّر لنظام الحكم الاستقرار والتقدم من جهة أخرى.
– ولأن التزام الدولة اللبنانية المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقّعتها من أعمال السيادة التي تأتيها الدول الحرة المستقلة، فيكون بالتالي على الدولة اللبنانية تجسيد مبادىء هذه المواثيق والمعاهدات في جميع الحقول والمجالات دون استثناء وفق نص الفقرة “ب” من مقدمة الدستور.
– ولأن هذا كله لا يتحقق ما لم يقرّ حق اللبنانيين في الإطلاع على المعلومات الرسمية والوصول إليها، تمكيناً لهم من معرفة أمورهم وقضاياهم، وكي يكون بمقدورهم محاسبة ممثليهم ومساءلة من يولّونهم عليهم، في ضوء معلومات ومعطيات رسمية مسؤولة.
– ولأن إهمال ذلك، كما هو واقع الحال اليوم، يناقض ميثاق العيش المشترك وشرعيته المنصوص عليه في الفقرة “ي” من مقدمة الدستور، ويجعل واقعنا منقوص الشرعية وفاقدها، ما لم نسارع إلى إصلاح الأمور. والإصلاح يبدأ في إقرار قانون تطبيقي و إدخال مواد تقرّ بهذا الحق في التشريعات النافذة تتيح الإطلاع على المعلومات الرسمية والوصول إليها دون عوائق أو عراقيل.

الإستنتاجات

يندرج مما تقدم بيانه ما يلي:
– يُستخلص من الدستور حق اللبنانيين بالإطلاع على المعلومات الرسمية والوصول إليها.
– الدستور هو الإطار القانوني الأول لإدخال تشريعات تضع هذا الحق حيز التنفيذ عبر إقراره في مختلف القوانين.
– الأصل في الحق بالإطلاع على المعلومات الرسمية والوصول إليها هو الإباحة، والاستثناء هو التقييد أو الحظر. ولا يكون الاستثناء إلا معللاً ومردوداً إلى مبادىء الإنتظام العام والمصلحة العامة وأمن الدولة، وضمن أضيق حدود التفسير.
– إن إقرار هذا الحق بتشريعات تطبيقية نافذة يُنزل دولة لبنان منزلة الدولة السيدة الملتزمة المواثيق الدولية، ولا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كما ينزلها منزلة الدولة الشرعية التي تحترم دستورها وتطبق مبادئه.
– إن التلكؤ أو تعطيل إقرار هذا الحق لا شرعية له، لأنه يخالف النص الدستوري الصريح وروحيته، ولأنه يناقض ميثاق العيش المشترك، ولأنه يطيح تالياً أسس النظام وشرعية الدولة.

نختم بالأمل أن تصلح هذه العجالة لأن تكوّن الأسباب الدستورية والقانونية الموجبة للقانون الذي نسعى لإقراره حول حق الوصول إلى المعلومات الموضوع قيد التداول والمناقشة العامة.

المرجع:
بحث بقلم المحامي محمد فريد مطر

Tagged: , , , , , , ,

Leave a comment