شهد العالم في السنوات المئة المنصرمة ثلاث موجات حاسمة كان لها شأن مهم في السياسة والأخلاق والإقتصاد والعلاقات الدولية. وهذه الموجات هي: القضاء على الرِّق، والقضاء على الاستعمار المباشر، وها نحن نشهد، ربما، بداية القضاء على الدكتاتوريات والاستبداد. أما العالم العربي فقد شهد منذ نهاية الحقبة الإستعمارية فصاعداً، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مرحلتين: مرحلة القومية العربية التي نجحت في عدد من الدول العربية أمثال مصر وسوريا والعراق واليمن والجزائر، لكن الطابع العسكري لها حوّلها إلى نظم قمعية أهانت الأفراد والمجموعات وتنمرت على المجتمع وسحقت الحرية في نهاية المطاف؛ ومرحلة الإسلام السياسي التي أخفقت إخفاقاً كبيراً، وخاصة في الجزائر ومصر والسودان.
أما الآن فثمة موجة جديدة عاتية لا يعرف لها أحد ذروة أو قراراً، هي موجة “الديموقراطية” التي يخشى الكثيرون، لا من الديموقراطية نفسها التي كانت دائماً واحدة من أسمى الغايات في المجتمعات العربية، بل من آثارها التفكيكية التي تنذر بإعادة المجتمعات العربية إلى عناصرها الأولى الإثنية والقومية والطائفية والمذهبية والعشائرية.
في خضم هذا الاضطراب وهذه البلبلة وجدت العنصرية مكاناً لها في المجتمعات الأكثر اختلالاً، أي في العراق وسوريا ولبنان. وهذا الأمر لا ينحرف كثيراً عن السياق العالمي لظهور العنصرية، فأوروبا التي شهدت في الخمسينات والستينات صعود اليسار وحركات الطلبة والشبيبة، انكفأت في الثمانينات والتسعينات لتظهر بين شبيبتها مجموعات النازيين الجدد والاتجاهات الإشتراكية القومية من طراز جان ماري لوبين في فرنسا، ويورغ هايدر في النمسا وغيرها. وهذه المجموعات والحركات الجديدة إنما هي الناتج الطبيعي للأزمات الإقتصادية التي عصفت بأوروبا ابتداءً من النصف الثاني من السبعينات، ولتدفق المهاجرين، بكثافة، من دول المستعمرات القديمة. وعلى سبيل المثال، فإن الألمان الذين كانوا يستقبلون العمال الأتراك بالورود لأنهم جاؤوا لإعادة إعمار ألمانيا المدمرة في الحرب العالمية الثانية، ها هم أبناؤهم اليوم لا يتورعون عن مهاجمة أحياء المهاجرين الأتراك بعدما أفنى هؤلاء العمال أكثر من خمسين سنة من أعمارهم في إعمار ألمانيا. ثم إن مفاهيم الهوية بدأت تثير سجالات متنوعة في المجتمعات الأوروبية الهرمة والمستقبلة للمهاجرين في آن، ما يعني أن صعود أفكار الهوية ربما يشير، إلى حد ما، إلى تفسخ هذه المجتمعات في جانبها الإنساني على الأقل.
العنصرية المتجددة في لبنان
في البداية، من هو اللبناني؟ في أحاديث العرب عن اللبناني، يستعيدون الصورة التي نقلتها إليهم المسلسلات التلفزيونية وهي صورة مصطنعة لا تمتّ بصلة إلى اللبناني العادي (ثري، جميل، متحرّر، جريء، مقدام…). يشعر العرب بشيء من الدونية الممتزجة بالحقد تجاه أصحاب هذه الصورة وحين يلتقون باللبناني العادي يسقطون عليه الكثير مما صاغه مخيالهم. رغم ذلك يبقى واقعاً أن “اللبناني” ما هو إلا تنويعة من لبنانيين مختلفين من حيث وضعهم الإجتماعي ومن حيث ثقافتهم وهذا يجعل مستحيلاً صناعة “ستيريوتايب” لبناني.
بالعودة إلى مسألة العنصرية، فالعنصرية، في تجلياتها المعاصرة تتخذ شكل التمييز الثقافي، التمييز الطبقي، التمييز الإجتماعي، التمييز على أساس المعتقدات وعلى أساس العادات وعلى أساس اللغة المحكية أو اللهجة. في المجتمعات العربية، العنصرية منتشرة إلى درجة لا تعود معها خاصيّة مميّزة لجماعة أو بيئة من دون جماعة أو بيئة أخرى وهي ترتدي عباءات مختلفة وهي، في المناسبة، عابرة لحدود الأوطان. فهناك تمييز أهالي المدن ضد أهالي الريف وأهالي الريف بعضهم ضد بعض. أبناء عكار في لبنان هم عرضة، تماماً كما جيرانهم أبناء ريف حمص، إلى عنصرية يمارسها عليهم أبناء المدن من بيارتة أو شاميين أو حلبيين أو حتى طرابلسيين. المجتمعات المحليّة التي تُعلي من شأن بعض العادات والتقاليد ترفض أبناء البيئات الأخرى أكانوا آتين من جنوب لبنان (كما حين النزوح أثناء حرب تموز 2006) أو من الريف السوري. على مستوى أدنى، تصل العنصرية إلى تعاطي أبناء القرى مع جيرانهم من أبناء القرى المجاورة.
في أوروبا، إنتعشت العنصرية على أيدي القوى السياسية الأكثر حيوية، أي النازية في المانيا والفاشية في إيطاليا والكتائب في إسبانيا. غير أن هذه الحيوية “النضالية” والأيديولوجية لم تظهر هكذا فجأة، وبقوة، جراء الإرادة السياسية للقادة النازيين أو الفاشيين، أو جرّاء العبقرية الفذة للمفكرين القوميين، إنما ظهرت لأسباب موضوعية تماماً ومستقلة عن الإرادة إلى حد بعيد، وكان لها الأثر الكبير في تكوين الوعي الجماعي لهذه المجتمعات. وهذه الأسباب الموضوعية هي: الهزيمة في الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى الشعور بالإهانة العسكرية والذل القومي، ثم الهزائم المتكررة للأحزاب الشيوعية في ألمانيا وإيطاليا ولا سيما في الثورات التي وقعت بين 1919 و1926، وأزمة الكساد العالمي بين 1929 و1933.
ركّزت الفاشية في أوروبا، وكذلك النازية، على الأمة كوحدة متجانسة، بينما “الفاشية” في لبنان ما برحت تركز على الطائفة كوحدة متجانسة وصافية. ولعل من مجافاة العلم والواقع أن نقارن العنصرية في لبنان بالفاشية في أوروبا، فالفاشية في أوروبا امتلكت، في بعض المراحل الزمنية، أدوات فكرية ومعرفية جذابة. بينما العنصرية في لبنان خاوية تماماً من أي بنية معرفية، ولا تمتلك من عناصر الظهور إلا التعصب والرغبة في العنف وكره الآخرين والإنحطاط الثقافي.
ظلت العنصرية في لبنان هامشية جداً وغير ذات تأثير واضح، لكنها كامنة. أما صوتها فقد بدأ يعلو، بالتدريج، إبان الحرب اللبنانية، وانهمكت جماعة من الأفراد على غرار سعيد عقل وإتيان صقر (أبو أرز) ومي المر وأمين ناجي ووليد فارس، وقبلهم فؤاد افرام البستاني، في الدعوة إلى أفكار ذات طابع عنصري، وتمكنت من أن تصوغ مضموناً فكرياً وسياسياً لهذه العنصرية، وهو مضمون مبتذل في أي حال، فانتهى بها المطاف إلى أحضان إسرائيل مباشرة! وهذه هي حال سعيد عقل الذي امتدح الجيش الإسرائيلي إبان اجتياح لبنان في سنة 1982، وكاد يلقي خطاباً من هذا العيار في الكنيست. وهذه هي حال إتيان صقر (أبو أرز) الذي طالما دعا إلى حلف تاريخي مع إسرائيل ضد سوريا، ووقف ضد الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، فإذا به اليوم محكوم بالتخابر مع الموساد، ويعيش لاجئاً ذليلاً في إحدى البلدات الإسرائيلية بعدما رفض العرب المسيحيون في فلسطين حتى أن يسكن بينهم.
إحتاجت العنصرية في لبنان دائماً إلى عدو. فتارة يكون العدو هو الفلسطيني، وطوراً السوري. ففي سنة 1976 دعا تلاميذ سعيد عقل من أمثال إتيان صقر إلى إبادة الفلسطينيين، وكان شعارهم: “على كل لبناني أن يقتل فلسطينياً”. ولم يخجل سعيد عقل قط حينما قال: “إذا أراد الفلسطينيون البقاء في لبنان فأهلاً بهم، ولكن تحت التراب وليس فوق التراب”. واليوم يبدو أن هذه البذور أينعت ضد اللاجئين السوريين، وهي حال معروفة تماماً في التحليل النفسي للجماعات الهمجية، وتبرهن لا على الخِسة فحسب، بل على الجبن الصريح، وعلى روح الإستفراد بالضعفاء. لكن هذه العنصرية، في المقابل، لا تحتاج إلى أي برهان على ابتذالها، ولدى الخادمات السيريلنكيات أفضل البراهين. إنهنّ، في الكثير من الأحيان، يُغتصبن، ويتمرن الإبن الأكبر بهنّ جنسياً، وكذلك يفعل الوالد في بعض الأحيان، وتُحتجز أموالهنّ وجوازات سفرهنّ كيداً، ويُجبرن على العمل بلا توقف إلى ما بعد منتصف الليل، ويُطعمن من بقايا الطعام، وينمن على أرض المطبخ، ويُحتجزن في المنزل من غير أي يوم للراحة، ويُمنعن من النزول إلى المسابح ولو مع أبناء مخدوميهنّ، لهذا ليس من الغرابة أن تكثر بينهن حالات الإنتحار والهروب. ولا يقتصر الأمر على السيريلنكيات هنا، بل يطال حتى السود في أفريقيا. وهناك الكثير من الحكايات التي تتغرغر بها أشداق النساء اللواتي لا يقل الشق في كعب الواحدة منهن عن طول الإصبع، ومع ذلك لا تخجل من الحديث عن إبنها “الغالي” في أفريقيا، وكيف أن لديه “عبدة” في المنزل و”عبدة” في “الحاكورة” و”عبدة” في “الدكان”. ولهذا، أيضاً، ليس غريباً أنه كلما اهتز الأمن في تلك البلاد تكون أرزاق اللبنانيين أول ما تُنهب وتُحرق.
الإستعلاء والهَوَس الخرافي بالتحضر
عند جميع الشعوب التي تفتك بها العنصرية، يتجاور مرض الإستعلاء مع خرافة التفوق الحضاري على الأقوام المجاورة. وهذه أمور مفهومة تماماً في المجتمعات المضطربة أو في المجتمعات التي تتعرض للإهانة الوطنية من الخارج، مثل لبنان. وفكرة الإستعلاء هي، في الجوهر، منقلبة من الشعور بالخوف من المحيط وكره الأقوام المجاورة. وعلى الأرجح أن هذه الفكرة نشأت، أول ما نشأت، في الجبل اللبناني الذي هو، بحسب اعتقاد فئة واسعة من سكانه، الوطن الملجأ. واللافت أن الميليشيات العسكرية الفاعلة في لبنان هي قوى جبلية في الأساس، أي أقليات. وقد ورثت هذه الأقليات الخوف من المحيط وكره الجوار.
أما خرافة التفوق الحضاري فقد ازدهرت في مناخ الصلة بالغرب من خلال الإتصال بمصانع الحرير في مدينة ليون والإرتباط بالكاثوليكية في روما. واستناداً إلى هذه العوامل تطورت خرافة جديدة هي أن لبنان هو باريس الشرق أو سويسرا الشرق أو حتى هونغ كونغ البحر المتوسط. والصحيح أن لبنان وبيروت بالتحديد لم يتطور إلى هذا الطراز من المدن أو الدول، بل ظل، في أحسن أحواله، طنجة في شرق المتوسط. فالزعامات السياسية، التي صارت ميليشيات إبان الحرب الأهلية، هي مزيج من العصابات والمقاتلين والمجرمين والعائلات المتغلبة ذات الشوكة. وهؤلاء اشتهروا، قبل الحرب، بإدارة صالات القمار والألعاب المحظورة وتهريب المخدرات والسمسرة وتجارة السلاح وافتتاح المواخير للعرب وتقديم الخدمة لمحطات الاستخبارات. وهؤلاء أنفسهم شرعوا، خلال الحرب، في تأسيس مجموعات على شاكلة “جبهة تحرير لبنان من الغرباء” و”حراس الأرز” وغيرهما. على أن بيروت، على سبيل المثال، لم يكن هذا هو وجهها الحقيقي، إنما بيروت هي الجامعة الأميركية وشارع المصارف والميناء والمطار الدولي والصحافة ودور النشر والحريات والنوادي الثقافية وحركات النهضة والتقدم. وبيروت هذه لم تصبح على مثل هذا البهاء إلا حينما ساهم فيها “الغرباء” من الفلسطينيين والسوريين بقسط كبير جداً من الإبداع والإزدهار. وبيروت هذه كانت دائماً مدينة من مدائن التجارة الساحلية، أي مدينة الاعتدال والانفتاح والمساومة والحلول الوسط، وليست مدينة للتعصب والانغلاق والعنصرية والحماقة. وطالما حاولت بيروت أن تصبح، بالفعل، باريس الشرق وأن تلفظ رياح التعصب والإنغلاق الغريبة عنها والوافدة إليها، إلا أن روح المعاقل العاصية وكره الآخر، أي العنصرية باختصار، أعاقت بيروت عن النهوض إلى غايتها، وساهمت في تدميرها خلال الحرب الأهلية.
وفي هذا المجتمع حينما تشعر الجماعة، وهي هنا الطائفة، بالخوف وعدم الأمان تلتف حول أكثر رجالها دموية بحثاً عن الحماية ثم الإنتقام. وأكثر الرجال دموية هو نفسه القبضاي في زمن السلم. وهذا القبضاي يتاجر بالممنوعات ويحمي جماعته ويعطف على أبناء منطقته ويمتاز بالشهامة في بعض الأحيان ولا يتورع عن بيع خدماته لأجهزة الاستخبارات ويسعى إلى خدمة أنصاره، فهو، بهذا المعنى، رجل محبوب ومهاب معاً. لكنه، حينما تتحول اللعبة نحو العنف، سرعان ما يتحول إلى قاتل ومأجور وكاره للجوار، بل إلى عنصري لا يخجل من المجاهرة بعنصريته.
البيئة العنصرية
شاع خلال الحرب الأهلية اللبنانية استخدام كلمة “العِرْبان” للدلالة على العرب، وهي كلمة تشير إلى الاستعلاء واحتقار العرب ومنهم الخليجيون بالدرجة الأولى، علماً بأن لبنان يعتاش، في جانب كبير من دخله الوطني، على ما ينفقه “العِرْبان” في أرضه، وعلى ما يوفرونه للبنانيين من فرص العمل، وعلى ما يقدمونه إلى لبنان من مساعدات لا تحصى. كذلك درج استعمال عبارات التضليل في الخطب السياسية العنصرية، فيقال “الفلسطيني” و”العربي” و”السوري” من غير تعيين أي فلسطيني أو أي عربي أو أي سوري. ولو قيل أن العداوة موجهة إلى تلك الجماعة من الفلسطينيين أو إلى النظام أو المعارضة في سوريا مثلاً، لكان الأمر مفهوماً، أما أن يُرمى الكلام هكذا من غير تخصيص، ففيه تضليل لا يخفى على أحد. وقد انغمس البعض، يساراً ويميناً، في تلك اللغة العنصرية فصار الكلام يدور مجاناً على “الفلسطيني” أو على “السوري” حينما يُراد به الحديث عن الفصائل الفلسطينية المقاتلة أو عن الحكم السوري أو الفصائل المعارضة للنظام. وعلى سبيل المثال كان التثقيف “الفكري” لدى “حزب حراس الأرز”، وهو الحزب الأكثر عنصرية وانحطاطاً في لبنان، يركز على السؤال التالي: مَن هو عدوكم؟ والجواب: عدونا السوري ثم الفلسطيني. أما السوري فهو العدو الدائم، وأما الفلسطيني فهو عدو موقت إلى حين يرحل عنا و”يحلّ” عن ظهرنا.
مستقبل عدائي
إن العنصرية مرض إجتماعي بالتأكيد، وهو عياء يشير إلى بعض مظاهر الإنحطاط الخلقي والفكري معاً. وفي المجتمعات المعاصرة التي عصفت بها رياح العنصرية وروائحها صارت أكثر الكلمات انحطاطاً هي كلمة “العنصرية”، وما فتئت هذه المجتمعات تحاول أن تتخلص من العار الذي لحق بها، أكان ذلك في مرحلة المتاجرة بالرقيق، أو في مرحلة احتقار سكان المستعمرات، أو في مرحلة الاستعلاء على المهاجرين. والعنصرية في لبنان، وهي محدودة الأثر في أي حال مع أنها كامنة مثل كمون النار في الصوان، هي مرض خطر سيفتك، أول ما يفتك، بأصحابه، لأن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة على الإطلاق. والعنصرية مثل عود الكبريت يحتاج إلى بيئة ملائمة لاشتعاله، والبيئة اللبنانية اليوم خاصة مع ازدياد أعداد اللاجئين السوريين مع التضارب في بعض الأحيان بين عادات هؤلاء اللاجئين وعادات المجتمعات المضيفة، إضافة إلى وجود حالات من السرقات أو الجرائم الموجودة في أي مجتمع، الأمر الذي ينذر للأسف باشتعالات شتى، وتنمو فيها بعض الجراثيم العنصرية، وستكون وبالاً لا على السوريين أو الفلسطينيين فحسب، وإنما على اللبنانيين أولا وأخيراً.
ومع استمرار تفاقم الوضع نحو الأسوأ فلا مبالغة بالقول أن العلاقة بين شعبين جارين صارت مهدّدة وقد نكون أمام مستقبل مطبوع بالعداء.
مراجع البحث: صقر أبو فخر – جريدة المستقبل
حسن عباس – موقع المدن الإلكتروني