تُعتبر الإعلانات من أقوى أنواع الدعاية في تاريخ الإنسان، وهي تُعدّ من أقوى التأثيرات الثقافية في الوقت الحاضر. كما أصبحت ثقافة الإعلان من أساس الثقافة التجارية التي اجتاحت معظم دول العالم. ومن ضمنها لبنان، حيث تشكّل اللوحات الإعلانية الناطق الفعلي بلسان حال الشارع. إنها، بمعنى ما، مرآة المجتمع الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والإنتخابية، وحتى العاطفية.
وتكاد الحاجة إلى الإعلان تكون مَرضيّة أحياناً. فالكل يحتاج إلى أن يعلن عن سلعه وأفكاره وطموحاته ومشاريعه المستقبلية، أفراداً كانوا أو جماعات، شركات أو مؤسسات أو جمعيات، أحزاباً أو تنظيمات.
لم يتخذ الإعلان الشكل الترويجي المتعارف عليه في عالم التسويق إلا بعد انتهاء الحرب اللبنانية الطويلة. فاستراحت الجدران من ثقل الكتابات والشعارات السياسية، وامتنعت عن استقبال صور القادة السياسيين والزعماء المبجّلين، وذلك بعدما وُزّعت اللافتات الإعلانية المرخّصة من بلديات المناطق على جنبات الطرق، وإن في شكل لا يخلو من العشوائية والفوضى. وتنوّعت مضامين الإعلانات مع طغيان الطابع الإستهلاكي والغاية الترويجية.
تنحيف وتجميل، طبخ وأناقة وجمال، سحق أسعار وتنزيلات بالجملة. وحجز المطربون ومن لفّ لفّهم لافتاتهم الخاصة ليؤكّدوا وجودهم على الساحة. ولم يغب المعلنون السياسيون، بل إنهم يحجزون لوحاتهم الخاصة عندما تقتضي الظروف والمناسبات. هذا بعض مما تحفل به اللوحات الإعلانية المنتشرة أينما كان وكيفما كان.
ولكن يبقى التساؤل قائماً، هل تتقيد كافة اللوحات الإعلانية بمعايير الأمن والسلامة العامة؟ وهل تراعي المعايير الأخلاقية والذوق الإجتماعي؟
في سنة ١٩٩٦ صدر مرسوم تنظيمي لقطاع اللوحات الإعلانية على الطرقات رقمه ٨٨٦١. المرسوم كرّس شرعية وجود اللوحات الإعلانية، متضمناً فقرات واضحة عن المواقع المسموح وضع الإعلانات فيها كما لحظ حجم الإعلانات والمسافات التي تفصل بينها. وهي تفاصيل تهدف فيما تهدف للحفاظ على جمالية البلد مع مراعاة تنظيم سوق الإعلانات الذي لا يقلّ حجمه عن ٤٥٠ مليون دولار تشكّل الملصقات ١٦% منه. إلا أن شيئاً منها لم ينفّذ فيما عدا في بعض البلديات، مثل بيروت وجونية مثلاً، علماً أن المرسوم تم توقيعه من عدد كبير من الوزارات وهي: العدل والداخلية والبيئة والأشغال العامة، ما يعني أنه تم قبوله.
ولكن في ظل استشراء فوضى اللوحات الإعلانية على الطرقات في لبنان يصبح ملحّاً السؤال: أين أصبح هذا المرسوم ولماذا لا يطبّق؟ فاللافتات تحوط المواطن كيفما وقع ناظريه يمنة أو يسرة، في وسط الطريق وعلى جانبيها، على الأوتوستراد، في الطرقات العريضة أو حتى في الزواريب. الإعلانات اجتاحت لبنان وشغلت كل الأماكن الفارغة فيه، وإن لم تجد مكاناً لها فرضت نفسها فوق إعلان آخر!
ولكن من المسؤول عن حالة الفوضى المستشرية؟
المعلنون، وزارة الداخلية والبلديات، أصحاب شركات الإعلان، كلهم معنيون من قريب أو من بعيد. الفوضى تتفاقم من دون حسيب أو رقيب. والكل يُجمع على ضرورة إيجاد حل سريع لها.
فوضى اللوحات الإعلانية
لا شك أن وضع أي إعلان على الطرقات السريعة يجب أن يأخذ بعين الإعتبار مسألة سرعة التنقل، إذ يجب على شركات الإعلان أن تراعي خلال وضع الإعلان على الأوتوستراد سرعة قيادة المستهلك المحددة بـ٨٠ كلم في الساعة كمعدل عام وهي فترة لا يمكن خلالها للسائق أن يقرأ أكثر من 4 كلمات لأن هناك حداً معيناً من الإدراك.
لكن الواقع على طرقات لبنان مختلف، فاللوحات الإعلانية مبعثرة على الطرقات: فوق المباني وبين أوتوسترادي الذهاب والإياب وعلى الأعمدة وفوق الجسور. وهناك، على سبيل المثال، نحو ألفي لوحة إعلانية من مختلف المقاييس بين منطقتي الدورة ونهر الكلب! عدد غير قليل منها غير مرخّص، ويحتوي بعضها أيضاً على أرقام هاتفية، يحاول المستهلك أثناء القيادة قراءتها أو تسجيلها، ما يتسبب في شروده الذي ينتج عنه حوادث سير في بعض الأحيان.
وإذا كانت الإعلانات في أميركا تغزو الطرقات والأبنية من دون أن تخرق القانون، فذلك لأن الجهات المعنية تجري دراسات تحدّد مكان وضع الإعلان. أما في لبنان فإن معظم الأمكنة التي توضَع فيها الإعلانات غير مناسبة. كما أن المحتوى لا يناسب أبداً الإعلان الخارجي الذي يجب أن يكون هدفه التكرار فقط. إذ أن تكرار الإعلان نفسه غير مرة يجعل المستهلك يحفظه عن ظهر قلب، غير أن هذا التكرار إن لم يكن مدروساً يفقد الإعلان هدفه الأساسي وتكون ردّة فعل المستهلك تجاهه عكسية ويستحيل بعدها أن يركّز على إعلان معين حتى يصل به الأمر إلى رفض الإعلان.
كما أنه من المناسب أن يقدّم المعلن نفسه بطريقة سلسة ومبسّطة وأن لا يقوم عبر إعلانه باقتحام خصوصية الفرد وغزوه لحريته، كحالة بعض المركبات التي تقطع الطريق على السيارات المارّة على أوتوستراد سريع بحجة تغيير الإعلان الذي ينتصف أوتوسترادين! أو اللوحات الإعلانية التي تنتشر على أرصفة مشاة كثيرة في بيروت خاصة وفي باقي المناطق على نحو يشكّل اعتداءعلى حقوق المشاة.
البلديات
تشكّل بلدية بيروت استثناء لناحية ترخيص الإعلانات، إذ ان هذه الصلاحية مناطة بمحافظ العاصمة الذي وحده يعطي التراخيص. وينحصر دور البلدية في مراقبة الشركة الإعلانية التي تضع العامود الثابت المؤجّر والتي يتوجّب عليها دفع قيمة تأجيرية لا تدخل ضمن موازنة الصندوق البلدي بل تتحول إلى المحافظة. وعلى الرغم من ذلك فإن العاصمة لا تخلو من بعض المخالفات حيث يعمد بعض المعلنين أو حتى المرشحين للإنتخابات إلى لصق إعلاناتهم وصورهم على جدران دور العبادة أو إشارات السير الأمر الذي يمنعه القانون. لذلك تقوم شرطة المخافر بتكليف من المحافظ مراقبة هذه الأماكن وضبط المخالفات وتحديد العقوبات اللازمة حسب نوع المخالفة.
هناك ثلاث فئات من اللوحات الإعلانية. اللوحات ٣×٤، يجب أن تفصلها عن الإعلان الثاني مسافة ١٠٠ متر، والفئة الأكبر يجب أن يفصلها عن الإعلان الذي يليها ٢٠٠ متر، والفئة الثالثة وهي الأكثر ضخامة يجب إبعادها عن أقرب إعلان آخر مسافة كيلومتر واحد. وتحاول البلديات فرض هذه القواعد خصوصاً على الأوتوسترادات العامة التي تربط المناطق اللبنانية ببعضها حفاظاً منها على المنظر العام كما على حياة الناس وسلامتهم.
قد تمتنع بعض البلديات عن إعطاء الرخص الإعلانية في حال عدم استيفاء كل الشروط المطلوبة. والجهاز الفني في البلدية له الدور الأبرز في التأكد من قانونية كل إعلان. لكن بعض المعلنين يعمدون إلى وضع إعلاناتهم من دون إعلام الجهات المختصة وقبل الحصول على تراخيص قانونية من المكاتب الفنية في البلديات. هنا للبلدية دور وصلاحية في أن تعاقب المخالفين، لأنها السلطة التي تراعي تطبيق القوانين المرعية الإجراء.
من أحد النماذج بلدية جونية، حيث كانت بعض الشركات ترخّص عشر إعلانات وتعرض في المقابل نحو عشرين من دون أن تصرّح عنها للبلدية. ولكن البلدية استطاعت منذ العام ٢٠٠٤ تغيير معالم الأوتوستراد الذي كانت تغرقه اللوحات الإعلانية قاطعة الرؤية عن زوارها أو العابرين لها، فانخفض عددها من ٣٥٨ لوحة في ذلك العام إلى حوالى الأربعين لوحة حالياً كلها مرخصة.
أنواع اللوحات الإعلانية
في ما يلي بعض أنواع اللوحات الإعلانية والمواصفات العالمية المعتمدة في هذا المجال.
– اللافتات:
يُقصد باللافتة أو الإعلان أي لوحة أو تركيبة أو سياج أو مكان أو وسيلة إعلان لمباشرة الإعلان عليها، بالكتابة أو النقش أو بالأحرف أو بالرسم، وذلك سواء كانت تلك اللافتة قائمة بذاتها أو كانت جزءاً من منشأة.
– لوحات الأرصفة والميادين العامة:
يُقصد بها اللوحات المثبتة في الأرض أو على جسم الأرض، أو اللوحات التي يتم إنشاؤها على الأرض بشرط ألا يكون أي جزء منها متصلاً بأي جزء من مبنى أو منشأة أو لوحة أخرى، وهي نوعان:
1- اللوحات الإعلانية والدعائية المثبتة على الأرصفة الوسطية: ويُسمح بهذه اللوحات قرب الإشارات المرورية الضوئية فقط، ويُشترط فيها ما يلي:
– الإرتداد عن الإشارة الضوئية بما لا يقل عن ٩ أمتار.
– الإرتداد عن حافتي الرصيف بما لا يقل عن ٦٠ متر.
– أن لا تُضيء اللوحات مباشرة على الطريق.
2- اللوحات الإعلانية والدعائية المثبتة على الأرصفة الجانبية: ويُسمح بوضعها على الأرصفة التجارية فقط، ويُشترط فيها الآتي:
– أن لا يقل عرض الرصيف عن ٦ أمتار (إرتداد المبنى).
– أن لا يزيد الإرتفاع الكلي للوحة عن ١.2 متر.
– الإرتداد عن حدود الشارع بما لا يقل عن ١.5 متر.
– المسافة الفاصلة بين اللوحة الإعلانية والأخرى لا تقل عن عشرين متراً.
– أن لا تعوق اللوحات الإعلانية حركة المشاة على الأرصفة.
– أن لا تُضيء اللوحات مباشرة على الطريق.
– البالونات الإعلانية والدعائية الهوائية:
هي وسيلة مؤقتة تُستخدَم للدعاية أو لترويج مناسبة خاصة، ويجب أن يكون البالون مصمماً لنفخه بالهواء بوسائل ميكانيكية فقط، ويُشترط فيها الآتي:
– استخدام بالون واحد في الموقع الواحد للإعلان عن مناسبة أو افتتاح أو تجارة، ويمكن استخدام بالون آخر متحرك على أن يُستخدم الإعلان نفسه.
– التنسيق مع الجهة المختصة (الطيران المدني في هذه الحالة) لأخذ موافقتها قبل الترخيص بإقامة الإعلان.
– الإعلانات على المركبات (السيارات):
يُشترط فيها ألا يُغيّر الإعلان أو الدعاية شكل المركبة أو يُخفي معالمها أو يؤثر على السلامة المرورية.
– إعلانات الطرق السريعة:
هي اللوحات الإعلانية التي تُقام على جوانب الطرق السريعة، سواء داخل أو خارج النطاق العمراني، ويُشترط فيها الآتي:
– تحديد مواقع اللوحات الإعلانية بالتنسيق مع الإدارة المختصة.
– التقيّد بالشروط المعتمدة لدى الإدارة.
– أن يكون موقع اللوحة في وضع يسمح بقراءة الرسالة المكتوبة عليها بزاوية ومسافة مناسبة.
– أن تكون اللوحات الإعلانية في غير مواقع المنحنَيات.
– أن لا يؤثر موقع اللوحات الإعلانية على سلامة الطريق ومستخدميه.
– اللوحات التذكيرية على الطريق:
يُسمح بها على الطريق السريعة التي تصل بين المدن والمناطق المختلفة، ويُشترط فيها ما يلي:
– إرتداد اللوحة عن حرم الطريق بما لا يقل عن خمسة أمتار.
– أن لا يزيد ارتفاع اللوحة عن خمسة أمتار.
– أن لا تقلّ مساحة اللوحة عن ٠.6 متر مربع.
– اللوحات التحذيرية:
هي اللوحات المؤقتة أو الدائمة، والتي تقيمها إدارات المرافق العامة أو شركات الإنشاء للتحذير من الأخطار أو حالات الخطر بما في ذلك اللوحات التي تدل على الكابلات تحت الأرض أو ما شابه.
– اللوحات الإعلانية على المباني:
يُشترط فيها الآتي:
– أن تكون الحوامل ومشتملاتها مرتدة عن حد واجهة البناء الواقعة على حد الطريق أو عن خط البناء بما لا يقل عن متر واحد.
– أن يكون تصميم وتركيب وتثبيت الإعلان طبقاً للأصول الفنية ومتطلبات السلامة ولا يترتب عليه أي ضرر.
حالات حظر الإعلانات
يُحظر وضع الإعلانات في الأماكن التالية:
المباني الأثرية.
النصب التذكارية أو الإعلامية المقامة على أرضٍ مخصصة للمنفعة العامة، وفي المنتزهات وعلى الأرصفة والأسوار المحيطة بها وعلى الأشجار.
الكتابة والنقش على الصخور وغيرها من مظاهر البيئة الطبيعية.
كما يُحظر وضع الإعلانات في أي منطقة إذا كانت:
تتعارض مع القوانين والأنظمة النافذة.
تتعارض مع النظام العام والآداب العامة.
غير نظيفة وبحالة مهترئة.
غير مثبتة بمتانة وبطرق مأمونة في المبنى أو المنشأ أو الأرض.
ذات تأثير سلبي على السائقين، لجهة تداخلها أو تعارضها مع إشارات وعلامات المرور.
الشروط الفنية للوحات الإعلانية
– الحصول على رخصة من البلدية لمختلف أنواع اللوحات الدعائية، والموافقة على تصاميم اللوحات المبدئية والألوان والمواد المستخدمة.
– إلتزام صاحب الإعلان بالصيانة الدورية وإصلاح الأعطال والتلف الناتج عن الحوادث المرورية والعوامل الطبيعية، ورفع المخلفات الناتجة عن ذلك والتأكد من سلامة التركيبات الكهربائية.
– عدم إعاقة لوحات الإعلانات لحركة المرور أو حجب الرؤية في الطرق العامة وأرصفة المشاة.
– أن لا تكون المواد التي تدخل في صناعة اللوحات الإعلانية من مواد قابلة للإحتراق، وأن تكون اللوحات المثبتة على الأسطح مرتفعة عن السطح بما لا يقل عن ١.20 متر.
– إختيار الموقع المناسب للوحات الإعلانية، بحيث تكون بعيدة عن أماكن الخطر كقربها من المواد القابلة للإشتعال أو مناطق التخزين، وألا تُشكّل نقاط جذب للأطفال، وأن لا تؤثر على درجة إنتباه السائقين.
– أن لا تكون اللوحات الإعلانية مصدر إزعاج صوتي أو ضوئي.
– أن لا تؤثر اللوحات الإعلانية على البصر من جراء تركيبات الألوان وتناسقها.
– مراعاة تركيب اللوحات وإبرازها بشكل فني يضمن تناسقها مع غيرها من اللوحات الأخرى، كما يجب أن لا تؤثر اللوحة على الواجهة الحضارية للمبنى أو الشارع.
– الأخذ في الإعتبار إيجاد مساحة كافية للوحات الإعلانات عند تصميم مبنى جديد يحتوي على محلات تجارية.
– قيام البلدية بمراقبة اللوحات الإعلانية في ما يتعلق بالصيانة والنظافة.
يشكّل الإعلان مورداً مهماً، وهو تعبير فني بيئي وأداة تواصل وعلامة صحة وحياة. وقد أصبحت اللافتات الإعلانية جزءاً لا يتجزأ من بيئة الطريق العام في غالبية دول العالم، وهي بجانب أهميتها الإقتصادية والتثقيفية والإرشادية، تنطوي أيضاً على أبعاد جمالية لها أثرها النفسي الإيجابي على سالكي الطرق، من راكبي السيارات أو المشاة الذي يجدون في الإعلانات على جوانب الطرقات أو أسطح الأبنية والمنتزهات العامة الكثير من اللمسات الفنية والجمالية والإبداعية التي تسرّ النظر.
لكن سيطرة الفوضى والعشوائية على سوق اللوحات الإعلانية تؤدي إلى نتيجة معاكسة لا تقتصر على تشويه المنظر العام فحسب بل قد تصل إلى التسبب بحوادث سير. ومن هنا على الجهات المعنية الإلتفات إلى ظاهرة الإعلانات العشوائية وتطبيق المعايير التي تراعي جانب السلامة وتبرز الناحية الجمالية ليتماشى الإعلان مع التطور العمراني وليرتقي بالمستوى الفني والإبداعي.
لطيفة مغربي
المراجع:
– د. الياس الشويري
رئيس الجمعية اللبنانية للسلامة العامة
مجلة الجيش
العدد ٢٤٥ – تشرين الثاني ٢٠٠٥